ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم «فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ»، يعني قوة صوت الملك بالوحي، فكان صلى الله عليه وسلم، يعي عنه، لأنّه لم يبق في سمعه مكان لغير صوت الملك ولا في قلبه.
وسبب تشبيه صوت الوحي بالصلصلة؛ فهو أنّ هذا الصوت هو صوت الوحي أصلاً في الملأ الأعلى، كما جاء في الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ.. وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ» (2).
ويقول الإمام ابن حجر في الفتح (3): "لَا يَلْزَم فِي التَّشْبِيه تَسَاوِي الْمُشَبَّه بِالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الصِّفَات كُلّهَا، بَلْ وَلَا فِي أَخَصّ وَصْف لَهُ، بَلْ يَكْفِي اِشْتِرَاكهمَا فِي صِفَة مَا، فَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان الْجِنْس، فَذَكَرَ مَا أَلِفَ السَّامِعُونَ سَمَاعه تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِهِمْ".
وبذلك يكون صوت الوحي من جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس صوت الوحي في الملأ الأعلى، وهو ما ورد في رواية ابن عباس: «إِنَّ اللَّه إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْل السَّمَاء لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَة كَجَرِّ السِّلْسِلَة عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيهِمْ جِبْرِيل فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيل فُزِّعَ عَنْ قُلُوبهمْ قَالَ: فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل، مَاذَا قَالَ رَبّك: قَالَ فَيَقُول: الْحَقّ، قَالَ فَيُنَادُونَ الْحَقّ.. الْحَقّ».
وكما كان التناظر بين صوت الوحي في الملأ الأعلى وبين صوت الوحي من جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم.. يكون التناظر بين تلقي الملائكة للوحي في الملأ الأعلى وبين تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي من جبريل. حتى شبه الإمام الطيبي ما يحدث للملائكة في الملأ الأعلى بما يحدث للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: "وزوال الفزع عنهم هنا بعد سماعهم القول كالفصم عن رسول الله بعد سماع الوحي، ولعله نظيره" (4).
ثانيًا: أنّ صوت الوحي له جانبان:
1- الجانب الذي يسمع فيه مثل ـ أو صوت من جنس ـ صلصلة الجرس، وهي المسافة بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسافة لا تقربها الشياطين والجن، إذ أنّه مع بداية نزول الوحي على الرسول عليه الصلاة والسلام أصبحت النجوم رجومًا للشياطين. وهو تفسير قول الله عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [سورة الجـن: 8-9]. فلا تكون هناك ثغرة من خلال فراغ لأنّها {مُلِئَتْ}، ولا من حارس ضعيف لأنّها {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} بل إنّ مجرد الاقتراب من السماء من أي جانب أصبح أمرًا مستحيلًا لأنّهم: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}[سورة الصافات: 8].
2- أمّا الجانب الثاني فهو ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وهو الذي يكون فيه صوت الوحي مثل دَوِيّ النحل، كما سيأتي فِي حَدِيث عُمَر: «يُسْمَع عِنْده كَدَوِيِّ النَّحْل». وكما كان التجانس بين صوت الوحي في الملأ الأعلى وصوت الوحي من جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم.. كان التجانس بين صوت الوحي من الرسول إلى الصحابة، وهو دوي النحل، وذلك للعلاقة بين الوحي والنحل. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأُنزل عليه يوما فمكثنا ساعة، فُسِرِّيَ عنه، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: «اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا»، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ». ثُمَّ قَرَأَ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ (5).
أما تفسير التشابه بين الوحي وصوت النحل فهو التجانس بين القرآن والعسل، فمادتهما واحدة حتى بلغ الأمر أن يختص الله النحل بالوحي وأن تكون مادتهما شفاء للناس: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل: 68-69] حتى أنّ كلمة "النصيحة" التي تكون في الدين مأخوذة من مادة العسل فتقول: نَصَحْتُ العَسَل، أي صَفَّيْتُه (6).
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم: "ولما كانت النحلة من أنفع الحيوان وأبركه قد خُصَّت من وحي الرب تعالى وهدايته بما لم يشاركها فيه غيرها، وكان الخارج من بطنها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام، وكانت أكثر الحيوان أعداء، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم".
ومن هنا كان تشبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عندما رآه ينتقل في قراءته للقرآن بين السور والآيات فقال: «مَثَلُ بِلالٍ كَمَثَلِ نَحْلَةٍ غَدَتْ تَأْكُلُ مِنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ، ثُمَّ هُوَ حُلْوٌ كُلُّهُ» (7)، وبذلك يتبين سبب تشبيه صوت الوحي من جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس وتشبيه صوت الوحي للناس بصوت النحل.
هذا هو الوحي عندنا، حكمة وإحكام..
وهذا هو طريقه إلينا من الملأ الأعلى حتى يصل إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مسافة طاهرة محفوظة لا تقربها الشياطين..
ثم نذهب لنرى ما عندهم في الوحي والتنبؤ..
"فأرسل شاول رسلا لأخذ داود ولما رأوا جماعة الأنبياء يتنبؤون وصموئيل واقفا رئيسا عليهم كان روح الله على رسل شاول فتنبأوا هم أيضا* 21 وأخبروا شاول فأرسل رسلا آخرين فتنبأوا هم أيضا ثم عاد شاول فأرسل رسلا ثالثة فتنبأوا هم أيضا* 22 فذهب هو أيضا إلى الرامة وجاء إلى البئر العظيمة التي عند سيخو وسال وقال أين صموئيل وداود فقيل ها هما في نايوت في الرامة* 23 فذهب إلى هناك إلى نايوت في الرامة فكان عليه أيضا روح الله فكان يذهب ويتنبأ حتى جاء إلى نايوت في الرامة* 24 فخلع هو أيضا ثيابه وتنبأ هو أيضا أمام صموئيل وانطرح عريانا ذلك النهار كله وكل الليل لذلك يقولون شاول أيضا بين الأنبياء*". (سفر صموئيل الأول 19/20 -25).
كل من أرسلهم شاول تنبؤوا فأرسل شاول بدلا منهم فتنبؤوا هم أيضا وهكذا مرة ثالثة.. حتى ذهب بنفسه ليرى ما الخبر فأصابه ما أصابهم "فخلع هو أيضا ثيابه وتنبأ هو أيضا أمام صموئيل" .. "وانطرح عريانا ذلك النهار كله وكل الليل كما فعل من تنبؤوا قبله لذلك يقولون: أشاول أيضا بين الأنبياء؟!". وهكذا تحولت منطقة الوحي عندهم إلى تجمع للعراة..!
وعُري الإنسان.. هو غاية الشيطان: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف: 27].